صلاح رشاد .. يكتب: ملك العضوض والأثمان الباهظة (52)
ملف التوريث أكبر ازمات الرشيد
كان عبد الله المأمون له منزلة خاصة في قلب أبيه الرشيد فهو ابنه البكر وأول فرحته، وقد شاءت إرادة الله أن تكون ليلة ولادته استثنائية فهي ليلة الخلفاء كما أسماها المؤرخون، لأنها شهدت موت خليفة هو موسي الهادي، وتولي خليفة هو هارون الرشيد، ومولد خليفة هو عبدالله المأمون.
وقد بشر الرشيد بالخلافة والولد في تلك الليلة التاريخية، لكن المشكلة الكبري أن الرشيد تعامل مع ملف التوريث بعاطفية شديدة وعدم حسم، وكانت الخيزران أم الرشيد قد مهدت الطريق بعد ذلك لأي سيدة قوية في البيت العباسي أن تحكم من وراء ستار أو تفرض ابنها أو من تشاء، وكان غريبا أن يحدث ذلك مع واحد من أعظم خلفاء بني العباس وهو هارون الرشيد الذي لم يستطع الإفلات من ضغوط زوجته الحبيبة وابنة عمه زبيدة التي أنجبت ابنا واحدا هو محمد أرادت له أن يرث ملك أبيه الرشيد، ولم تكن هذه الأم المسكينة تعلم أن ما تريده وتتمناه لابنها سيكون مصدر هلاكه وضياع حياته وملكه وشبابه.
لكن في نفس الوقت لا يجب أن نحمل الرشيد فوق الطاقة لأن الضغوط عليه كانت كبيرة من زوجته والبيت العباسي، لأن العباسيين أيضا أخوال الأمين، وبالتأكيد كانوا يفضلونه علي المأمون ابن الجارية الفارسية.
عندما بايع الرشيد إبنه محمد الأمين كان في الخامسة من عمره وهي نفس سن المأمون الذي لم يكن يكبر أخاه إلا بستة شهور، وفي هذه السن المبكرة لم تكن هناك فوارق ملموسة بين الطفلين، لكن عندما كبرا بدأت تتضح الفوارق، مع الوضع في الاعتبار أن الفوارق لم تكن كبيرة ،فقد حصل الاثنان علي نفس الدرجة من رعاية الأب وعنايته، فكان مؤدب الأمين هو العالم العلامة علي الكسائي الذي كان إماما في اللغة و النحو و القراءات، وكان مؤدبا للرشيد أيضا قبل أن يؤدب ابنه الأمين، أما المأمون فكان يؤدبه يحيي بن المبارك اليزيدي وكان قرين الكسائي في العلم والتبحر في اللغة.
لكن المأمون كان ميالا أكثر إلي العلم والتحصيل ربما لإحساسه بأنه يقل عن أخيه في النسب من ناحية الأم، فأراد أن يعوض نقطة الضعف هذه التي لا ذنب له فيها، بثقافة وعلم يجعلانه مصدر فخر أبيه .. وقد كان.
أما الأمين فقد كان ميالا أكثر إلي اللهو وكانت من أهم نقاط ضعفه، لأنه بعيدا عن ذلك كان فصيحا شجاعا مؤهلا إلي حد ما لخلافة أبيه، ولو لم يكن يتوافر له هذا الحد الأدني من الكفاءة الإدارية ما كان أبوه قد تركه وليا لعهده خوفا علي دولتهم وملكهم وسلطانهم وحرصا أيضا علي مصالح الرعية.
ربما كان الأمين ضحية أمه التي لم تكن تتحمل أن ينهره معلم مثلما حدث مع الكسائي الذي يقول: كُنْتُ أُشَدِّدُ علي الأمين والمأمون في الأدب، وآخُذُهما به أَخْذًا شديدًا، وبخاصَّةٍ محمَّدٌ الأمين، فأَتَتْنِي ذات يوم “خالصةُ” جارية أمِّ جعفر – زُبَيْدة – فقالت: يا كِسائيُّ، إنَّ السَّيّدةَ تَقْرَأُ عليْكَ السَّلام، وتقول لك: حاجتي إليك أن تَرْفُقَ بابنِي محمَّد؛ فإنَّه ثمرة فؤادي، وقُرَّةُ عَيْنِي، وأنا أَرِقُّ عليه رِقَّةً شديدة، فقُلْتُ لخالصةَ: إنَّ محمَّدًا مُرَشَّحٌ للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في تأديبه.
وهكذا كانت رقة زبيدة وخوفها علي ابنها الوحيد وشغفها به من أسباب لهوه وعدم تقديره للأمور حق قدرها.
ورغم أن الأمين كان في حجر الفضل بن يحيي البرمكي، إلا أن البرامكة بعد سنوات قليلة شعروا أن الرهان علي الأمين لن يكون في مصلحتهم خاصة بعد أن زاد نفوذ زبيدة التي ربما أرادت أن تعيد سيناريو الخيزران أم الرشيد، فضغط البرامكة علي الرشيد من أجل أن يكون المأمون ولي عهد ثانيا، ولهم مصلحة في ذلك لأنهم أساسا من الفرس وأم المأمون فارسية، مايعني أن خلافة المأمون ستكون امتدادا لأيام مجدهم وسعدهم.
ووجد هذا الأمر أذانا صاغية من الرشيد ربما لإحساسه بالذنب تجاه المأمون الأصلح والأكبر والأجدر.
تخوف الرشيد من أن يحدث صدام بين الأخوين بعد ذلك فأخذ عليهما العهود والمواثيق بالوفاء لبعضهما البعض، وأشهد القضاة والولاة وكبار رجال الدولة وجعل هذه العهود في خزينة من فضة ووضعها في جوف الكعبة.
وبعدها بأعوام قلائل، أضاف الرشيد ابنه الثالث القاسم لقائمة ولاة العهد ولقبه بالمؤتمن، وكانت هذه المرة الأولي في تاريخ الدولتين الأموية والعباسية التي يجتمع فيها تحت راية ولاية العهد ثلاثة أخوة.
حاول الرشيد أن يأخذ بكل الأسباب الكفيلة بأن تسير الأمور في طريق السلامة بين أبنائه بعد موته، ورأي أن العهود والمواثيق وحسن تربية أولاده وحبهم لبعضهم كفيل بأن يمنع حدوث ما يعكر الصفو بينهم، وفي نفس الوقت حرص علي أن يكون وضع المأمون جيدا وأن يقف علي أرض صلبة إلي حد ما .. فماذا فعل الرشيد وما هو السلاح الذي منحهللمأمون فكان طوق النجاة له عندما اشتدت به الخطوب والأزمات؟
نجيب في الحلقة المقبلة إن شاء الله.